كيف يساهم البشر بخلق كائنات جديدة دون أن يعرفوا.. مثال من الطبيعة وقصة تاريخية



في العام 1185 كانت اليابان يحكمها إمبراطور صغير لم يتجاوز عامه السابع بعدُ، يدعى أنتوكي، وكان الزعيم الاسمي لجماعة من الساموراي المحاربين الملقبين بالهايكي، اُعتبر الامبراطور الصغير مصدر الوحي والقوة والإيمان الذي يغذي قلوب الهايكي في حروبهم مع مجموعة ساموراي أخرى تلقب بالجانجي، وكانت هذه المجموعة الثانية تعتبر نفسها صاحبة الحق بالجلوس على العرش الامبراطوري لليابان، ودارت بينهما حروب ومعارك كثيرة كان آخرها المعركة البحرية التي وقعت في دانو-أورا في 24 نيسان من عام 1185 وكان النصر حينها حليف مجموعة الجانجي؛ إذ كان الهايكي أقل عدداً وخسروا كثيراً من السفن.
كان الامبراطور أنتوكي برفقة جدته (ني) على متن إحدى السفن، وحين بدا انتصار الجانجي واضحاً؛ رأت أن من غير اللائق أن تُؤسر مع الامبراطور؛ إذ إن في هذا مذلة كبيرة.. فقررت الجدة أن تتلو الصلاة الأخيرة لها ولحفيدها، ثم ضمته بقوة بين ذراعيها وألقت بنفسها وإياه في مياه البحيرة ليتجنبا وصمة عار تاريخية.



تدمر أسطول الهايكي الذي شارك في المعركة كلياً، ولم ينج سوى 43 امرأة أجبرن على بيع الزهور والعطور إلى صيادين الأسماك الذين مارسوا مهنتهم على مقربة من ميدان المعركة، ومع تقدم الوقت نشأت علاقات بين هذه النسوة وصيادي السمك، فكثرت سلالتهم.. وصار يوم 24 نيسان مناسبة يتم الاحتفال بها من كل عام حتى يومنا هذه من قبل أحفاد النسوة الناجيات من أسطول الهايكي تخليداً لذكرى الامبراطور الصغير وجماعته الذين فضلوا الموت على الأسر والذل.
يقول صيادو السمك المحليون أن ساموراي الهايكي لا يزالون يجوبون قاع البحيرة التي قتلوا فيها حتى اليوم، ولكن على شكل سلطعونات(سرطانات) تحمل على وجهها الظهري نقش لوجه الساموراي.. يصاب الصيادون بالذعر من هذه السلطعونات التي يظنون أن روح السامواري لا تزال فيها، وكلما خرج في أياديهم سلطعون بنقش ساموراي يتم إعادته من جديد إلى الماء صونا لذكرى دانو-أورا.
كيف يمكن للسلطعونات تغير شكلها تماشياً مع حدث معين؟
في الواقع السلطعونات لم تغير في نفسها شيئاً، بل البشر هم الذين فعلوا.. ولنفترض أنه منذ قديم الزمان ظهر من قبيل المصادفة سلطعون يحمل صورة وجه إنسان، فحتى قبل معركة دانو-أورا كان الناس سيرفضون أكله ويعيدونه إلى الماء مطلقين بذلك العنان لعملية تكاثر أدت إلى زيادة هذا النوع من السلطعونات، بالإضافة إلى قيامهم دون قصد بتقليص عدد الأنواع الأخرى عن طريق أكلها، فلو كنتَ سلطعوناً بوجه ساموراي فإن الصياد ببساطة سيعيدك إلى الماء وستعيش حياتك بشكل طبيعي، أما لو كنت سلطعوناُ عادياً فإن البشر سوف يأكلونك ولن تكون قادراً على نشر جيناتك، ومع تكرار هذه العملية سوف تقل بشدة عدد السلطعونات العادية ولربما تنقرض، بينما سيسود النوع المميز.
إن كل هذه العملية كانت بفعل الإنسان دون قصد.. ولكن إن كان بإمكاننا انتقاء أنواع مرغوبة من الأحياء أليس من الأولى بنا العمل على الأنواع التي تفيدنا اقتصادياً؟ الجواب هو أننا لقد وضعنا بصمتنا بالفعل في التحوير الجيني لكثير من الأنواع الحية على وجه الأرض، فقبل عشرة آلاف سنة لم يكن يوجد حيوانات اسمها بقر مدجن أو كلاب صيد أو عرانيس ذرة كبيرة.. الأنواع الأولى من الأبقار التي اشتغل الإنسان بها كانت غير منتجة للحليب بهذا القدر الذي نشهده اليوم، لكن قيامنا بالاعتناء بنوع محدد مرغوب والتغاضي عن البقية أنتج لدينا سلالة مدرة للحليب من الأبقار هي السلف لكل بقرة موجودة اليوم، أما الأنواع الأخرى فقد انقرضت تقريباً.
إن العملية التي تشرح كيفية قيام الإنسان بالتلاعب عن قصد أو دون قصد بالخط الجيني لبعض الأحياء تسمى الانتقاء الصناعي.. هذه الفكرة كانت المولد الأول لما يسمى اليوم بالهندسة الوراثية، كما تعد دليلاً قوياً تدعم الجزء الآخر من الانتقاء الحيوي المسمى بالانتقاء الطبيعي، وهو التعديل الجيني للأحياء وتطورها بفعل قوى الطبيعة البحتة.

المصدر : كتاب 'الكون' لكارل سيجان، الفصل الثاني.

مصدر الصورة : هنا

0 التعليقات: